الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **
قال ابن كثير: قال مقيده عفا اللَّه عنه تكليم ءَادم الوارد في "صحيح ابن حبان" يبيّنه قوله تعالى: قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: وقال ابن جرير في تفسير قوله تعالى: وفيه وفي كلام ابن كثير المتقدم عن "صحيح ابن حبان" التصريح بأن ءَادم رسول وهو مشكل مع ما ثبت في حديث الشفاعة المتفق عليه من أن نوحًا عليه وعلى نبيّنا الصلاة والسلام أول الرسل ويشهد له قوله تعالى: الأول: أن ءَادم أرسل لزوجه وذرّيته في الجنة، ونوح أول رسول أرسل في الأرض، ويدلّ لهذا الجمع ما ثبت في "الصحيحين" وغيرهما، ويقول: "ولكن ائتوا نوحًا فإنه أول رسول بعثه اللَّه إلى أهل الأرض"، الحديث. فقوله: "إلى أهل" الأرض، لو لم يرد به الاحتراز عن رسول بعث لغير أهل الأرض، لكان ذلك الكلام حشوًا، بل يفهم من مفهوم مخالفته ما ذكرنا. ويتأنس له بكلام ابن عطية الذي قدمنا نقل القرطبي له. الوجه الثاني: أن ءَادم أرسل إلى ذريته وهم على الفطرة لم يصدر منهم كفر فأطاعوه، ونوح هو أول رسول أرسل لقوم كافرين ينهاهم عن الإشراك باللَّه تعالى، ويأمرهم بإخلاص العبادة له وحده، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: وقوله تعالى: وأشار في مواضع أُخر إلى أن منهم إبراهيم كقوله: وأشار في موضع آخر إلى أن منهم داود وهو قوله: تنبيــه في هذه الآية الكريمة، أعني قوله تعالى: وقال القرطبي في تفسير هذه الآية ما نصّه: وهذه الآية مشكلة، والأحاديث ثابتة بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " لا تخيروا بين الأنبياء ولا تفضلوا بين أنبياء اللَّه "، رواها الأئمة الثقات، أي: لا تقولوا فلان خير من فلان، ولا فلان أفضل من فلان، اهـ. قال ابن كثير في الجواب عن هذا الإشكال ما نصّه: والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل، وفي هذا نظر. الثاني: أن هذا قاله من باب الهضم والتواضع. الثالث: أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذا الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاجر. الرابع: لا تفضلوا بمجرد الآراء والعصبية. الخامس: ليس مقام التفضيل إليكم، وإنما هو إلى اللَّه عزّ وجلّ، وعليكم الانقياد والتسليم له والإيمان به،اهـ منه بلفظه. وذكر القرطبي في "تفسيره" أجوبة كثيرة عن هذا الإشكال، واختار أن منع التفضيل في خصوص النبوة، وجوازه في غيرها من زيادة الأحوال والخصوص والكرامات فقد قال ما نصه: قلت: وأحسن من هذا قول من قال: إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة هو التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها، وإنما التفضيل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والألطاف والمعجزات المتباينات. وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل، وإنما تتفاضل بأمور أُخر زائدة عليها، ولذلك منهم رسل وأولو عزم، ومنهم من اتخذ خليلاً، ومنهم من كلّم اللَّه ورفع بعضهم درجات. قال اللَّه تعالى: قالوا: فما فضله على الأنبياء ؟ قال: قال اللَّه تعالى: واختار ابن عطية كما نقله عنه القرطبي أن وجه الجمع جواز التفضيل إجمالاً كقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد ءَادم ولا فخر"، ولم يعين ومنع التفضيل على طريق الخصوص كقوله: "لا تفضلوني على موسى"، وقوله: "لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متَّى"، ونحو ذلك والعلم عند اللَّه تعالى. الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواْ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يفهم من هذه الآية أن من أتبع إنفاقه المنّ والأذى لم يحصل له هذا الثواب المذكور هنا في قوله: يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ المراد بالظلمات الضلالة، وبالنور الهدى، وهذه الآية يفهم منها أن طرق الضلال متعددة؛ لجمعه الظلمات وأن طريق الحق واحدة؛ لإفراده النور، وهذا المعنى المشار إليه هنا بيّنه تعالى في مواضع أُخر كقوله: قال ابن كثير في تفسير هذه الآية، ما نصّه: ولهذا وحد تعالى لفظ النور وجمع الظلمات؛ لأن الحق واحد والكفر أجناس كثيرة وكلها باطلة كما قال: ، كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ بيّن أن المراد بـ {الَّذِى} الذين بقوله: ، فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانتَهَىا فَلَهُ مَا سَلَفَ معنى هذه الآية الكريمة أن من جاءه موعظة من ربه يزجره بها عن أكل الربا فانتهى أي: ترك المعاملة بالربا؛ خوفًا من اللَّه تعالى وامتثالاً لأمره وقال في الذين كانوا يتزوجون أزواج آبائهم قبل التحريم: وقال في الصيد قبل التحريم: وقال في الصلاة إلى بيت المقدس قبل نسخ استقباله: ومن أصرح الأدلة في هذا المعنى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين لما استغفروا لقربائهم الموتى من المشركين وأنزل اللَّه تعالى: ، يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَوااْ صرح في هذه الآية الكريمة بأنه يمحق الربا أي: يذهبه بالكلية من يد صاحبه أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به كما قاله ابن كثير وغيره، وما ذكر هنا من محق الربا، أشار إليه في مواضع أُخر كقوله: واعلم أن اللَّه صرح بتحريم الربا بقوله: {وَحَرَّمَ الرِّبَا}، وصرّح بأن المتعامل بالربا محارب اللَّه بقوله: وصرح بأن آكل الربا لا يقوم أي: من قبره يوم القيامة إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس بقوله: واعلم أن الربا منه ما أجمع المسلمون على منعه ولم يخالف فيه أحد وذلك كربا الجاهلية، وهو أن يزيده في الأجل على أن يزيده الآخر في قدر الدَّيْن، وربا النَّساء بين الذهب والذهب، والفضة والفضة، وبين الذهب والفضة، وبين البّر والبّر، وبين الشعير والشعير، وبين التمر والتمر، وبين الملح والملح، وكذلك بين هذه الأربعة بعضها مع بعض. وكذلك حكى غير واحد الإجماع على تحريم ربا الفضل، بين كل واحد من الستة المذكورة فلا يجوز الفضل بين الذهب والذهب، ولا بين الفضة والفضة، ولا بين البر والبر، ولا بين الشعير والشعير، ولا بين التمر والتمر، ولا بين الملح والملح، ولو يدًا بيد. والحق الذي لا شك فيه منع ربا الفضل في النوع الواحد من الأصناف الستة المذكورة، فإن قيل: ثبت في "الصحيح" عن ابن عباس، عن أسامة بن زيد، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا ربا إلا في النسيئة" وثبت في "الصحيح" عن أبي المنهال أنه قال: سألت البراء بن عازب، وزيد بن أَرقم عن الصرف فقالا: كنا تاجرين على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فسألنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الصرف، فقال: "ما كان منه يدًا بيد فلا بأس، وما كان منه نسيئة فلا"؛ فالجواب من أوجه: الأول: أن مراد النبيّ صلى الله عليه وسلم بجواز الفضل ومنع النسيئة فيما رواه عنه أسامة، والبراء، وزيد، إنما هو في جنسين مختلفين، بدليل الروايات الصحيحة المصرحة بأن ذلك هو محل جواز التفاضل، وأنه في الجنس الواحد ممنوع. واختار هذا الوجه البيهقي في "السنن الكبرى"، فإنه قال بعد أن ساق الحديث الذي ذكرنا آنفًا عن البراء بن عازب، وزيد بن أَرقم، ما نصه: رواه البخاري في الصحيح عن أبي عاصم، دون ذكر عامر بن مصعب، وأخرجه من حديث حجاج بن محمد، عن ابن جريج، مع ذكر عامر بن مصعب، وأخرجه مسلم بن الحجاج، عن محمد بن حاتم بن ميمون، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي المنهال، قال: باع شريك لي ورقًا بنسيئة إلى الموسم أو إلى الحج، فذكره وبمعناه رواه البخاري عن عليّ ابن المديني، عن سفيان، وكذلك رواه أحمد بن روح، عن سفيان وروي عن الحميدي عن سفيان عن عمرو بن دينار، عن أبي المنهال، قال: باع شريك لي بالكوفة دراهم بدراهم بينهما فضل. عندي أن هذا خطأ، والصحيح ما رواه علي ابن المديني، ومحمد بن حاتم، وهو المراد بما أطلق في رواية ابن جريج، فيكون الخبر واردًا في بيع الجنسين، أحدهما بالآخر، فقال: "ما كان منه يدًا بيد فلا بأس، وما كان منه نسيئة فلا"، وهو المراد بحديث أسامة، واللَّه أعلم. والذي يدل على ذلك أيضًا ما أخبرنا به أبو الحسين بن الفضل القطان ببغداد: أنا أبو سهل بن زياد القطان، حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتي، حدثنا أبو عمر، حدثنا شعبة، أخبرني حبيب هو ابن أبي ثابت، قال: سمعت أبا المنهال قال: سألت البراء وزيد بن أرقم عن الصرف فكلاهما يقول: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن بيع الورق بالذهب دينًا، رواه البخاري في "الصحيح" عن أبي عمر حفص بن عمر وأخرجه مسلم من وجه آخر عن شعبة اهـ من البيهقي بلفظه، وهو واضح جدًا فيما ذكرنا. من أن المراد بجواز الفضل المذكور كونه في جنسين لا جنس واحد. وفي تكملة "المجموع" بعد أن ساق الكلام الذي ذكرنا عن البيهقي ما نصه: ولا حجة لمتعلق فيهما؛ لأنه يمكن حمل ذلك على أحد أمرين، إما أن يكون المراد بيع دراهم بشىء ليس ربويًا، ويكون الفساد لأجل التأجيل بالموسم أو الحج، فإنه غير محرر ولا سيّما على ما كانت العرب تفعل. والثاني: أن يحمل ذلك على اختلاف الجنس ويدل له رواية أخرى عن أبي المنهال، قال: سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن الصرف فكلاهما يقول: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينًا، رواه البخاري ومسلم، وهذا لفظ البخاري ومسلم بمعناه. وفي لفظ مسلم عن بيع الورق بالذهب دينًا، فهو يبيّن أن المراد صرف الجنس بجنس آخر. وهذه الرواية ثابتة من حديث شعبة عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي المنهال، والروايات الثلاث الأول رواية الحميدي، واللتان في "الصحيح" وكلها أسانيدها في غاية الجودة. ولكن حصل الاختلاف في سفيان فخالف الحميدي على ابن المديني، ومحمد بن حاتم، ومحمد بن منصور، وكل من الحميدي وعلي ابن المديني في غاية الثبت. ويترجح ابن المديني هنا بمتابعة محمد بن حاتم، ومحمد بن منصور له، وشهادة ابن جريح لروايته، وشهادة رواية حبيب بن أبي ثابت لرواية شيخه، ولأجل ذلك قال البيهقي رحمه اللَّه: إن رواية من قال إنه باع دراهم بدراهم خطأ عنده. اهـ منه بلفظه. وقال ابن حجر في "فتح الباري" ما نصّه: وقال الطبري معنى حديث أُسامة:"لا ربا إلا في النسيئة" إذا اختلفت أنواع البيع. اهـ محل الغرض منه بلفظه، وهو موافق لما ذكر. وقال في "فتح الباري" أيضًا ما نصّه: تنبيـه وقع في نسخة الصغاني هنا قال أبو عبد اللَّه: يعني البخاري، سمعت سليمان بن حرب يقول: لا ربا إلا في النسيئة، هذا عندنا في الذهب بالورق، والحنطة بالشعير، متفاضلاً ولا بأس به يدًا بيد، ولا خير فيه نسيئة. قلت: وهذا موافق.ا هـ منه بلفظه. وعلى هامش النسخة أن بعد قوله: وهذا موافق بياضًا بالأصل، وبهذا الجواب الذي ذكرنا تعلم أن حديث البراء وزيد لا يحتاج بعد هذا الجواب إلى شىء؛ لأنه قد ثبت في "الصحيح" عنهما تصريحهما باختلاف الجنس فارتفع الإشكال، والروايات يفسر بعضها بعضًا، فإن قيل: هذا لا يكفي في الحكم على الرواية الثابتة في الصحيح بجواز التفاضل بين الدراهم والدراهم أنها خطأ؛ إذ لقائل أن يقول لا منافاة بين الروايات المذكورة، فإن منها ما أطلق فيه الصرف ومنها ما بين أنها دراهم بدراهم، فيحمل المطلق على المقيد، جمعًا بين الروايتين، فإن إحداهما بينت ما أبهمته الأخرى، ويكون حديث حبيب بن أبي ثابت حديثًا آخر واردًا في الجنسين، وتحريم النَّساء فيهما، ولا تنافي في ذلك ولا تعارض. فالجواب على تسليم هذا بأمرين: أحدهما: أن إباحة ربا الفضل منسوخة. والثاني: أن أحاديث تحريم ربا الفضل أرجح وأولى بالاعتبار على تقدير عدم النسخ من أحاديث إباحته. ومما يدلّ على النسخ ما ثبت في "الصحيح" عن أبي المنهال قال: باع شريك لي ورقًا بنسيئة إلى الموسم أو إلى الحج، فجاء إليّ فأخبرني فقلت: هذا أمر لا يصح، قال: قد بعته في السوق فلم ينكر ذلك على أحد، فأتيت البراء بن عازب فسألته فقال: قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة ونحن نبيع هذا البيع، فقال: "ما كان يدًا بيد فلا بأس به، وما كان نسيئة فهو ربا"، وأتيت زيد بن أرقم فإنه أعظم تجارة مني، فأتيته فسألته فقال مثل ذلك. هذا لفظ مسلم في "صحيحه". وفيه التصريح بأن إباحة ربا الفضل المذكورة في حديث البراء بن عازب وزيد بن أرقم كانت مقارنة لقدومه صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرًا. وفي بعض الروايات الصحيحة في تحريم ربا الفضل أنه صلى الله عليه وسلم صرح بتحريمه في يوم خيبر، وفي بعض الروايات الصحيحة تحريم ربا الفضل بعد فتح خيبر أيضًا، فقد ثبت في "الصحيح" من حديث فضالة بن عبيد الأنصاري رضي اللَّه عنه قال: أُتي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب، وهي من المغانم تباع، فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده، ثم قال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب وزنًا بوزن" هذا لفظ مسلم في "صحيحه"، وفي لفظ له في "صحيحه" أيضًا عن فضالة بن عبيد قال: اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر دينارًا فيها ذهب وخرز ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارًا، فذكرت ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تباع حتى تفصل"، وفي لفظ له في "صحيحه" أيضًا عن فضالة رضي اللَّه عنه قال: كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم خيبر نبايع اليهود الوقية الذهب بالدينارين والثلاثة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الذهب بالذهب، إلا وزنًا بوزن". وقد ثبت في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة وأبي سعيد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعث أخا بني عدي الأنصاري فاستعمله على خيبر، فقدم بتمر جنيب، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أكل تمر خيبر هكذا؟" قال: لا واللَّه يا رسول اللَّه، صلى الله عليه وسلم، إنا لنشتري الصاع بالصاعين من الجمع، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تفعلوا، ولكن مثلاً بمثل، أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا، وكذلك الميزان" هذا لفظ مسلم في صحيحه، وفي لفظ لهما عن أبي هريرة وأبي سعيد أيضًا أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر فجاء بتمر جنيب فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أكل تمر خيبر هكذا؟" قال: لا واللَّه يا رسول اللَّه، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "فلا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا" والأحاديث بمثله كثيرة، وهي نص صريح في تصريحه صلى الله عليه وسلم بتحريم ربا الفضل بعد فتح خيبر، فقد اتضح لك من هذه الروايات الثابتة في "الصحيح": أن إباحة ربا الفضل كانت زمن قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرًا،، وأن الروايات المصرحة بالمنع صرحت به في يوم خيبر وبعده، فتصريح النبيّ صلى الله عليه وسلم بتحريم ربا الفضل بعد قدومه المدينة بنحو ست سنين وأكثر منها، يدلّ دلالة لا لبس فيها على النسخ، وعلى كل حال فالعبرة بالمتأخر، وقد كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث. وأيضًا فالبراء وزيد رضي اللَّه عنهما كانا غير بالغين في وقت تحملهما الحديث المذكور عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، بخلاف الجماعة من الصحابة الذين رووا عنه تحريم ربا الفضل، فإنهم بالغون وقت التحمل، ورواية البالغ وقت التحمل أرجح من رواية من تحمل وهو صبي؛ للخلاف فيها دون رواية المتحمل بالغًا وسن البراء وزيد وقت قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة، نحو عشر سنين؛ لما ذكره ابن عبد البر عن منصور بن سلمة الخزاعي: أنه روى بإسناده إلى زيد بن جارية أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم استصغره يوم أحد، والبراء بن عازب، وزيد بن أَرقم، وأبا سعيد الخدري، وسعد بن حبته، وعبد اللَّه بن عمر، وعن الواقدي أن أول غزوة شهداها يوم الخندق. وممن قال: بأن حديث البراء وزيد منسوخ، راويه الحميدي. وناهيك به علمًا واطلاعًا. وقول راوي الحديث: إنه منسوخ، في كونه يكفي في النسخ. خلاف معروف عند أهل الأصول، وأكثر المالكية والشافعية لا يكفي عندهم. فإن قيل: ما قدمتم من كون تحريم ربا الفضل واقعًا بعد إباحته، يدلّ على النسخ في حديث البراء وزيد، لعلم التاريخ فيهما، وأن حديث التحريم هو المتأخر، ولكن أين لكم معرفة ذلك في حديث أُسامة ؟ ومولد أُاسامة مقارب لمولد البراء وزيد؛ لأن سن أسامة وقت وفاته صلى الله عليه وسلم عشرون سنة، وقيل: ثمان عشرة، وسن البراء وزيد وقت وفاته صلى الله عليه وسلم نحو العشرين، كما قدّمنا ما يدلّ عليه. فالجواب: أنه يكفي في النسخ معرفة أن إباحة ربا الفضل وقعت قبل تحريمه، والمتأخر يقضي على المتقدم. الجواب الثاني: عن حديث أسامة أنه رواية صحابي واحد، وروايات منع ربا الفضل عن جماعة من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، رووها صريحة عنه صلى الله عليه وسلم، ناطقة بمنع ربا الفضل، منهم: أبو سعيد، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وأبو هريرة، وهشام بن عامر، وفضالة بن عبيد، وأبو بكرة، وابن عمر، وأبو الدرداء، وبلال، وعبادة بن الصامت، ومعمر بن عبد اللَّه وغيرهم وروايات جلّ من ذكرنا ثابتة في "الصحيح"، كرواية: أبي هريرة، وأبي سعيد، وفضالة بن عبيد، وعمر بن الخطاب، وأبي بكرة، وعبادة بن الصامت، ومعمر بن عبد اللَّه، وغيرهم. وإذا عرفت ذلك فرواية الجماعة من العدول أقوى وأثبت وأبعد من الخطأ، من رواية الواحد. وقد تقرر في الأصول أن كثرة الرواة من المرجحات، وكذلك كثرة الأدلة كما عقده في "مراقي السعود"، في مبحث الترجيح، باعتبار حال المروي بقوله: وكثرة الدليل والرواية مرجح لدى ذوي الدرايةْ
والقول بعدم الترجيح بالكثرة ضعيف، وقد ذكر سليم الداري أن الشافعي أومأ إليه، وقد ذهب إليه بعض الشافعية والحنفية. الجواب الثالث: عن حديث أسامة أنه دل على إباحة ربا الفضل، وأحاديث الجماعة المذكورة دلت على منعه في الجنس الواحد من المذكورات، وقد تقرر في الأصول أن النص الدال على المنع مقدم على الدال على الإباحة؛ لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام، وقد قدمناه عن صاحب "المراقي"، وهو الحق خلافًا للغزالي، وعيسى بن أبان وأبي هاشم وجماعة من المتكلمين حيث قالوا: هما سواء. الجواب الرابع: عن حديث أسامة أنه عام بظاهره في الجنس والجنسين، وأحاديث الجماعة أخص منه؛ لأنها مصرحة بالمنع مع اتحاد الجنس، وبالجواز مع اختلاف الجنس، والأخص مقدم على الأعم؛ لأنه بيان له ولا يتعارض عام وخاص، كما تقرر في الأصول. ومن مرجحات أحاديث منع ربا الفضل على حديث أسامة الحفظ؛ فإن في رواته أبا هريرة، وأبا سعيد، وغيرهما، ممن هو مشهور بالحفظ، ومنها غير ذلك. وقال ابن حجر في "فتح الباري" ما نصّه؛ واتفق العلماء على صحة حديث أسامة، واختلفوا في الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد، فقيل: منسوخ لكن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وقيل: المعنى في قوله:"لا ربا"، الربا الأغلظ الشديد التحريم، المتوعد عليه بالعقاب الشديد، كما تقول العرب: لا عالم في البلد إلا زيد، مع أن فيها علماء غيره وإنما القصد نفي الأكمل لا نفي الأصل، وأيضًا فنفي تحريم ربا الفضل من حديث أسامة إنما هو بالمفهوم. فيقدم عليه حديث أبي سعيد؛ لأن دلالته بالمنطوق. ويحمل حديث أسامة على الربا الأكبر كما تقدم، واللَّه أعلم. اهـ منه.
|